(١) التوحيد
(١) التوحيد
استمع الدرس هنا
:قال رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وعليه التوكل
متى ألَّفَ شيخ الاسلام من محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد والاصول ثلاثة، وكشف الشبهات؟ كتاب التوحيد الشيخ رحمه الله الفه في البصرة، لما رَحَلَ الشيخ كان له رحلات في في طلب العلم وكان رحل الى البصرة، واستفاد من المكتبات هناك، وقف على كتب في الحديث، وللسلف في المكتبات هناك، وبدا يَجْمَع الكتاب من من خلال الكتب، ورحمه الله راى الواقع في نَجْد، وراى الواقع في البصرة، وراى احوال الناس وبعدهم عن التوحيد، فبدا يجمع ويبوب ويصنف ويقسم الايات والادلة في بيان التوحيد واضاحه، فبدا بذلك في البصرة، ويُقَال انه اتمه في (حُرَيْمِلَاء) وفي بلدةٌ عريقة في نجد، تقع شمال غرب مدينة الرياض في المملكة العربية السعودية، وتُعد من أقدم مدن منطقة الوشم، بعدما رجع اتمه وهناك اشتهر الكتاب وانتشر وقلع على الشيخ، وتداوله طلاب العلم وتناسخوه، لكن ب جمع الشيخ له وجمعه لابوابه وادلته وهذا كان في البصرة.
اين المُقَدِّمَة ؟ جرت عادته المصنفين او كثير منهم، ان يَستهلُّ مؤلفاتهم بمقدمة تبين غرض الكتاب والغاية من تاليفه، وطريقة المؤلف في الكتاب، الى غير ذلك من الامور التي جرت العادة في كثير من الكتب، بينما المؤلف -رحمه الله- بدا مباشرة قال: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب التوحيد، واخذ يسوق الادلة ودخل مباشرة في مضمون الكتاب، وهذه الطريقة التي انتَهَجَهَا -رحمه الله- هي طريقة كثير من اهل العلم المتقدمين، اقرا على سبيل المثال: صحيح البخاري، والسُّنَن، والمسانيد، والمعاجم، والاجزاء الحديثية، فترى كثيرا منها يُشرع في المضمون والتقريرات بدون مقدمة.
لماذا لا يوجد مقدمات ؟
اولا : والسبب في ذلك ان عندهم حرصا على قلة الكلام، وعدم الاطالة، وتركُ بَيَانَ الوَاضِح، فاذا قيل كتاب التوحيد، عُرِفَ بدون مُقدمة انَّه مُؤَلَّفٌ لبيان التوحيد، وتقريره، والاستدلال له، فناسب حينئذ الدخول في الموضوع مباشرة، ولهذا قال الشيخ كتاب التوحيد وقول الله تعالى، فشرع في ذكر الادلة، كما هي طريقة الكثير من اهل العلم المتقدمين في مصنفاتهم، وكان كلامهم قليلا كثير البركة، وكلام المتاخرين في الغالب كثير وقليل البركة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في زمانه، فكيف بالازمان المتاخرة؟
ثانيا : ثم هناك غرض اخر لهذه الطريقة، الا وهي ربط الناس والمتعلمين بالدليل، فلا يجعل بينه وبين الدليل شيئا؛ فيضع العنوان ثم تاتي الدلائل والبراهين، فيكون تعليمهم ووعظهم بالاية والحديث مباشرة، قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ [سورة الأنبياء، الآية 45]، وَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [سورة ق، الآية 45] وقال قبلها سبحانه: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [سورة ق، الآية 37]، فيربطون الناس بالدليل مباشرة، حتى في تفسير المعاني، وبيان الحقائق يربطون الناس بالدليل، وسترى في هذا الكتاب هذه الطريقة المباركة في تقرير التوحيد، وبيان حقيقته، وتفسير معناه، كل ذلك بالدليل، وحتى تفسير التوحيد وشرحه وبيان معناه لم يفسره المصنف بكلام انشاه، وانما فسره بايات تلاها من القران.
طريقة الشيخ رحمه الله، عن كتاب الاصول الثلاثة: الشيخ رحمه الله كتبها مرات وكتبها ايضا على عده مستويات كتبها للصغار وكتبها للعوام، وكتبها لطلاب العلم، وكتبها مختصرة، وكتبها بتوسع، فالذي يقرا في مجموع مؤلفاته وفي الدُّرَرُ السَّنِيَة يجد ان ان الاصول الثلاثة كتبت على كتبها الشيخ في فترات وعلى المستويات حتى في نسخه منها كتبها لعوام بلهجتهم باللهجة العامية، حتى قال فيها: اذا قيل لك وش ربك؟ وكان الشيخ رحمه الله عليه ما كان عنده تكلف، فاذا جاءه العامي يخاطبه باسلوبه ولهجته، واذا راسل عامي يراسله باسلوبه اسلوب اللهجة العامية، فتقرا بعض فتاوى الشيخ لهجة عامية تماما اذا كان من كتب له عامي، فينزل الى مستواه ويخاطبه باسلوبه، جاءه رجل وقال له ما معنى قول الله تعالى قل ما يعبا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ما معنى ما يعبا بكم؟ قال يعني وش يبيبكم؟ يعني طريقته بسيطة، حتى في بعض كتاباته تقرا في الدرر وفي غيرها من يخاطبهم عوام يخاطبهم يكتب بيده بالاسلوب العامي وبالهجة العامية؛ ولهذا بعض رسائله بعضكم اذا قراها لا يفهمها؛ لانها كتبت بلهجه عوام ليست على لهجة بلده؛ لان من خاطبهم بها عوام، ولهذا بعض الكلمات اذا طبعت تشرح للناس لان بلهجة عامية. فبعض الناس يتكلم مع العوام بالفصحى ويقول لازم هم يطلعون لي، لازم يطلعون هم يتعلمون ثم يطلعون لي، وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فالمقصود ان تبين لهم، فاذا كانوا عوام ما يفهمون الكلام الفصيح كلمهم بالعامية، ودرسهم بالعامية على مستواهم، ولا يمنع لو كتبت لهم اوراق بلهجتهم حتى تحقق لهم الفائدة المقصودة.
كيف قرر الامام المسائل في الكتاب ؟ سياتي معنا باب تفسير التوحيد وشهادة ان لا اله الا الله، بماذا فسر التوحيد؟ قد تتصور انه جاء بكلام يشرح التوحيد ويفسره، في هذا الباب قرأ اربع ايات من القران وحديثا واحدا من سنة النبي الكريم ﷺ، وانتهى هنا تفسيره للتوحيد، ففسر التوحيد بايات من القران وحديث عن الرسول الكريم ﷺ. اورد قول الله تعالى: أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [سورة الإسراء، الآية 57]، واورد قول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الزخرف، الآيات 26–28]، واورد قول الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة، الآية 31]، واورد قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [سورة البقرة، الآية 165]، وختم بقول النبي ﷺ، فعن طارق بن أشيَمْ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حَرُمَ ماله ودمه، وحسابُهُ على الله” [رواه مسلم (رقم 23)]، وانهى بهذه الطريقة تفسير التوحيد بالايات والاحاديث، فهذه طريقة السلف -رحمهم الله- في ربط الناس بالدليل وبكلام الله وكلام رسوله ﷺ؛ ولهذا قال كثير من اهل العلم ممن اطلعوا على هذا المصنَّف، وعَرَفُوهُ وعرفوا الطريقة الفذة المباركة التي سلك مؤلفه فيه، قالوا: ان طريقتة ونَفَسِهِ في كتابه، مثل نفس الامام البخاري في صحيحه، في التراجم، والدلائل، وطريقة التصنيف.
وفي قوله : كتاب، كِتَابُ اصل مادة هذه الكلمة يرجع الى الجَمْع، والكتاب سُمِّيَ كتابا لانه يجمع ويؤلِّف بين الحروف والكلمات، والكتاب هو مَجْمُوع في غرض معين؛ فالكلمات اذا جُمعت لغرض معين، فما اجتمع من ذلك يسمى كِتابا، وقد دَرَج اهل العلم من قديم على تسمية المؤلفات بالكُتُب والعادة في الكتاب ابواب، وفي الابواب مسائل.
الكتاب: يجمع الموضوع الذي جُمع له كاملا كالتوحيد مثلا، او الفقه، او نحو ذلك.
الباب: يجمع موضوعا معينا من المواضيع العديدة التي يشتمل عليها الكتاب.
المسائل: التفريعات الكثيرة والجزئيات الدقيقة الداخلة في الباب.
والشيخ رحمه الله رتب كتابه على هذه الطريقة، فجعله مكونا من: ابواب، وتحت كل باب مسائل مستفادة من الباب، وفي بعض الابواب تزيد المسائل على العشرين مسالة، وفي بعض الابواب مسالتين او ثلاث او نحو ذلك، بحسب ما يَستنبط رحمه الله من المسائل.
وفي قوله : التوحيد، والتوحيد مصدر للفعل وَحَّدَ، يُوَحِّدُ تَوْحِيْدَاً، وهو اصل دالٌّ على الافراد، وتوحيد الله سبحانه وتعالى هو افراده سبحانه وتعالى بخصائصه، فالتوحيد: ”هو افراد الله سبحانه وتعالى بخصائصه“.
ما هي خصائص الله تعالى ؟
خصائصه سبحانه في: ربوبيته، واسمائه وصفاته، والوهيته.
هذا هو التوحيد، ان يُفرَدَ سبحانه بخصائصه جل وعلا، في الربوبية، والاسماء والصفات، والالوهيه، فلا يُجعل معه شريك في شيء منها.
ما ضد هذا التوحيد ؟
والشرك ضده : ”بان يسوَّى غير الله بالله في شيء من خصائص الله“.
فالتوحيد: افراد الله بخصائصه.
والشرك تسويه غير الله بالله في شيء من خصائصه؛ ولهذا يقول المشركون يوم القيامة اذا دخلوا النار: تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء، الآيتان 97–98]، وقال الله جل وعلا: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [سورة الأنعام، الآية 1]، {قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي بعدما أقرّوا أنه الخالق الرازق المحيي المميت، عدلوا به غيره، فعبدوا معه سواه، وهذا من أعجب العجب، أن يُعبد المخلوق الضعيف مع الخالق العظيم}، ومر معنا قريبا قوله تعالى: : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ …. [سورة البقرة، الآية 165]، كَحُبِّ اللَّهِ تسوية غير الله بالله، ايا كان هذا الغير، ملكا مقربا، او نبيا مرسلا، او وليا، او غير ذلك، فتسوية غير الله بالله في شيء من خصائص الله، هذا الشرك.
ما هي انواع التوحيد ؟
والتوحيد وما يفرد الله سبحانه وتعالى به انواع ثلاثة:
النوع الاول : توحيد الربوبية : هو افراد الرب سبحانه وتعالى بافعاله، من الخَلْق، والرِّزْق، والاحياء، والاماته، والتصرف، والتدبير، الى غير ذلك من معاني الربوبية، فلا يجعل معه شريك في شيء من ذلك.
النوع الثاني : توحيد الاسماء والصفات : بالايمان باسمائه وصفاته الواردة في كتابه وسنة نبيه ﷺ ايمانا صحيحا قويما، لا تحريف فيه ولا تعطيل، ولا تكييف فيه ولا تمثيل.
النوع الثالث : توحيد الالوهية : بان يفرد سبحانه وتعالى بالعبادة، فلا يُجعل معه شريك فيها، كما انه تفرَّدَ بالخلق، والرَّزْقِ، وتفرد بالكمال والجلال والعظمة، فيُفْرَدُ وحده سبحانه وتعالى بالعبادة، لا يُجعل معه شريك في شيء من ذلك.
فكل ذلك من خصائصه جل وعلا، فلا شريك له في شيء من ذلك، فلا شريك له سبحانه في ربوبيته، ولا شريك له سبحانه في اسمائه وصفات، ولا شريك له سبحانه وتعالى في الوهيته.
اسم الدين الاسلام التوحيد : ودين الاسلام سُمِّيَ توحيدا؛ لان مبناه على الايمان بوحدانية الله عز وجل، في ربوبيته، واسمائه وصفاته، والوهيته.
لماذا انواع التوحيد الثلاثة فقط وليست الحاكمية منهم؟ فكيف نرد على من يقول: ان تقسيم التوحيد الى الانواع الثلاثة انما كان عن طريق استقراء نصوص الكتاب والسنة، فلا باس ان نضيف نوعا رابعا وهو توحيد الحاكمية؛ لان كثيرا من الايات قد دلت عليه، والحاجة اليه اليوم ماسة؟ توحيد الحاكمية ليس قسيما لاقسام التوحيد الثلاثة، حتى يُجْعَل قسما مستقلا، وانما هو داخل فيها، ولو فهم هذا ”من جعله قسيما لها“ لم يقع في هذا الخطا، فتوحيد الحاكمية هو داخل في الاقسام الثلاثة وليس قسيما لها، فداخل في: الربوبية باعتبار ان الحُكُم لله جل وعلا، الا له الخلق والامر، وداخل في: الاسماء والصفات؛ لان الحَكِيْم اسمه والحُكْمُ صفته جل وعلا، وداخل في توحيد العبادة من جهه وجوب طاعة الله عز وجل في امره بامتثاله ونهيه، فالتوحيد الحاكمية ليس قسيما قسيما لهذه.
من أوّل من تكلّم بالمصطلح نفسه (توحيد الحاكمية)؟ الاصطلاح بلفظه الحديث لم يُعرف في كتب السلف المتقدمين، وإنما هو تعبير حادث في القرن العشرين، أول من شَاع على لسانه كان: أبو الأعلى المودودي (في ثلاثينيات القرن العشرين (1930–1935): بدأ المودودي يكتب في مجلته ترجمان القرآن في الهند، وطرح فيها فكرة الحاكمية لله ردًا على الفكر القومي والهندي الوثني، معتبرًا أن الإسلام "نظام إلهي للحكم" وليس مجرد عقيدة روحية. وسنة 1941م: أسس المودودي "الجماعة الإسلامية" في الهند، وبدأ يشرح فكرته في كتب مثل نظرية الإسلام وهديه في السياسة والمصطلحات الأربعة في القرآن (نُشر بالإنجليزية سنة 1944 تقريبًا). وفي الخمسينيات والستينيات: تأثر سيد قطب بكتبه بعد ترجماتها، فتبنّى المصطلح في كتابه في ظلال القرآن ومعالم في الطريق، وجعله محورًا لمفهوم الجاهلية والحاكمية.) – فهو -المودودي- من شبه القارة الهندية – في كتبه مثل المصطلحات الأربعة في القرآن ونظرية الإسلام وهديه في السياسة، فاستعمل لفظ الحاكمية لله (Hakimiyyat Allah) بمعنى أن السيادة والتشريع حق لله وحده، وأن كل حكم بشري مخالف للوحي هو اعتداء على هذا الحق. (وفي اخر صفحة اقوال العلماء المعاصرين)
وهو قبل ذلك بدا رحمه الله بالبسملة، وحمد الله والثناء عليه والصلاه والسلام على رسوله ﷺ، قال وقول الله تعالى {وََمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: ٥٦].
لماذا بدأ بهذه الاية ؟ فهذه الاية ساقها هنا وبدا بها؛ لان فيها تبيانا واضحا ان التوحيد هو الغاية التي خلق الله تبارك وتعالى الخلق لاجلها، واوجدهم لتحقيقها، فبدا بهذه الاية الكريمة مبينا بها ان الغاية من خلق الناس وايجاد الثقلين (توحيد الله)، دون ان يتكلم هو بشيء، وانما ربط الدليل مباشرة، والدليل واضح في دلالته على ما سيق لاجله قال: كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: وََمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، فاذا قرا المتامل عرف من هذا السياق ان التوحيد هو الغاية التي خُلِقَ الخَلْقُ لاجلها، واوجدوا لتحقيقها؛ ففي قوله تعالى : وََمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، ليس هناك غرض اخر، او هدف اخر، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [سورة الذاريات، الآيات 56–58]؛ فالاية واضحة في الدلالة على ان التوحيد هو الغاية التي خلق الله تبارك وتعالى الخلق لاجلها، واوجدهم لتحقيقها.
اسلوب الاية : والاسلوب في الاية من اساليب الحَصْر، وََمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ اي هذه الغاية من خلقهم وايجادهم وهذا هو الغرض، ان يعبدوا الله، فاخبر سبحانه وتعالى انه فعل بهم الاول وهو الخلق وََمَا خَلَقْتُ؛ ليفعلوا هم الثاني وهو العباده إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، لا ليفعل بهم هو سبحانه وتعالى الثاني؛ لانه لو كان هذا المراد لكانوا كلهم عبيد له سبحانه وتعالى؛ لان ارادته سبحانه وتعالى الكونية لا يتخلف عنها شيء، اي ان العبادة من الخلق ارادة شرعية، فقوله إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ اي خلقهم ليقوموا بعبادته، خلقهم ليكونوا محلا للامر والنهي والامر بعبادة الله، ويوضح هذا المعنى قول الله سبحانه وتعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة ٣٦]، اي لا يؤمر ولا ينهى؟ هذا لا يكون، ولم يخلق لذلك، ولم يوجد عبثا، وانما خُلق ليؤمر وينهى، فمن الناس من يعبد، ومن الناس من لا يمتثل، مثلها تماما قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ … [سورة النساء، الآية 64] فالرسل ارسلوا ليطاعوا، ارسلوا دعاة الى دين الله وهداة الى الحق، ا لكن هل كل احد دعوه يطيعهُم؟ من الناس من يطيع، ومنهم من لا يطيع، والخلق خلقوا لعبادة الله ومن الناس من يعبد ومن الناس من لا يمتثل، فاذن: قوله جل وعلا إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ اي الا لامرهم بعبادتي، وتوحيدي، واخلاص الدين لي، هذا هو المعنى.
قاعدة : قرر اهل العلم في هذا الباب قاعده قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : كل امر بالعبادة في القران امر بالتوحيد، أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ معنى اعْبُدُوا رَبَّكُمُ اي افردوه وحده بالعبادة؛ ولهذا اتى بعدها بقليل فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآيتان 21–22]، فاعبدوا ربكم اي افردوه بالعبادة، وخصوه وحده سبحانه وتعالى بالطاعة، فكل امر بالعباده في القران امر بالتوحيد.
الغاية من بعثة الرُّسُل : ساق رحمه الله هذه الاية الكريمة ليبين من خلالها ان التوحيد هو الغاية من بعثه الرسل، اذن :
الاية الاولى : (وََمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) في بيان ان التوحيد هو الغايه من خلق الثقلين.
الاية الثانية -هذه الاية-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) في بيان ان التوحيد هو الغاية من بعثة الرسل، اي لماذا ارسل الله عز وجل الرسل لماذا بعثهم؟ ياتيك الجواب وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، مثلها قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء، الآية 25]، وقول الله تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف، الآية 45] وقوله تعالى: أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ - يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ [سورة النحل، الآيتان 1–2]، والايات في هذا المعنى كثيرة جدا، وكلها دالة على ان الغاية والغرض من بعثة الرسل الدعوة الى توحيد الله وافراده سبحانه وتعالى وحده بالعبادة.
قصص الانبياء في القران تشهد لهذا : فكل نبي بعثه الله يبدا قومه بدعوتهم الى التوحيد، واول كلمة تقرع سمع الاقوام من انبيائهم الدعوة الى توحيد الله، وقد تكرر في غير اية في القران في قصص الانبياء بدءُ الانبياءِ اقوامهُم بقولهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ، وياتي هذا الامر في مقدمة الاوامر اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ، دعوة الى توحيد الله سبحانه وتعالى، واخلاص الدين له.
قيام الحُجَّة على العباد : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) وهذا فيه قيام الحُجَّة والمَعْذِرَة ببعثة الرسل.
بعثة الانبياء : وتامل هنا لما كان القصد من خلق الثقلين عبادة الله وتوحيده والايمان به وبكل ما امر سبحانه وتعالى بالايمان به، ولما ايضا كان لا سبيل لذلك الا ببيان من الله جل وعلا لهذه التفاصيل، وهذه الاحكام اقتضت حكمة الله جل وعلا (الا يوحي الى كل فرد من افراد الناس وحيا خاصا)، وان يصطفي سبحانه وتعالى من خلقه ومن الناس رسلا يبلغون الناس ما خلقوا لاجله واوجدوا بتحقيقه، ويبينون لهم تفاصيل الايمان، واحكام الدين؛ فارسل الله جل وعلا رسله تترى، رسولا يتلوه رسول الى ان ختمهم بمحمد ﷺ، مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [سورة الأحزاب، الآية 40]، فختم به ﷺ الرسالات.
النبي والرسول يتكلم بلغة اقوامهم : وكان جل وعلا يبعث الرسل بالسِنَةِ قومهم : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة إبراهيم، الآية 4]، وهؤلاء كلهم ارسلهم جل وعلا دعوة الى توحيده وافراده بالعبادة.
الاثبات والنفي : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ (اعْبُدُوا اللَّهَ) وَ(اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ))، وهذا هو التوحيد، اعْبُدُوا اللَّهَ دعوة الى عبادة الله، وتحذير من عبادة الطاغوت اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، وسياتي معنا في تفسير التوحيد ان التوحيد له ركنان، لا يصح الا بهما: النفي والاثبات، كما هو واضح في كلمة التوحيد لا اله الا الله ،نفي واثبات، ولا توحيد الا بذلك، و وهو ظاهر في هذه الاية، (اعْبُدُوا اللَّهَ) وَ(اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). وهذا هو التوحيد: افراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ونفي العبادة عن كل من سواه جل وعلا.
ما هو الطاغوت ؟ الطاغوت مشتق من الطُّغْيَان، وهو مجاوزة الحد، فكل ما تجاوز الناس به الحد من متبوع او معبود او مطاع فهو طاغوت، واتخذ طاغوتا، اي طغى الناس فيه وتجاوزوا الحد، ووقعوا بذلك في اظلم الظلم واشنعه؛ لان العباده حق لله سبحانه وتعالى، فمن جعلها لغيره طغى وظلم وبغى واعتدى.
الشرك هضم لجناب التوحيد : قال اهل العلم عن الشرك: انه هضم لجناب الربوبية، وتنقص للالوهية، وسوء ظن برب العالمين، وشنائع الشرك لا حد لها.
اتفاق الانبياء على هذا الغرض : قال ﷺ في الحديث الصحيح، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلَّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد. [رواه البخاري (3443) ومسلم (2365)].
العقيدة واحدة: ”ودينهم واحد“ اي توحيدنا وعقيدتنا وايماننا واحد، كلهم دعاة الى توحيد الله والايمان وبكل ما امر سبحانه وتعالى فهذه امور متفق عليها بين الانبياء لا خلاف بينهم.
الشرائع تختلف: ” أمهاتهم شتى “ اي شرائعنا مختلفه، لِكُلّ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعة وَمِنۡهَاجاۚ [المائدة ٤٨] فالشرائع قد تختلف من نبي لاخر، اما التوحيد والايمان والاصول فهذه واحدة عند جميع الانبياء.
هل العقيدة يدخلها النَّسخ؟ قاعدة مهمة: العقيدة لا يدخلها النَّسخ، وليس شيء من امور العقيدة يُنسخ.
اين يكون النسخ اذاً؟ النسخ فقط في الاحكام والاوامر، فقد يؤمر الناس في فتره بشيء ثم يُنسخ بحسب احوال المكلفين.
لماذا ذُكِرَت هذه الاية هنا؟ هذه الاية الثالثة ساقها -رحمه الله- هنا؛ لبيان ان التوحيد اعظم الاوامر، واعظم الوصايا، وان الشرك هو اخطر شيء، واعظم شيء نهى الله سبحانه وتعالى عنه.
ما الحكمة من هذه الايات تحديدا؟ هذه الاية من [سورة الاسراء]، والايات بعدها مشتملة على اوامر ونواهي عديدة، ونبه الشيخ -رحمه الله- في المسائل الى ذلك، قال: وفيها ثمانية عشر مسالة، والمقصود بقوله مسالة: اي اوامر ونواهي:
نهي عن الشرك: “فَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا” [سورة الإسراء، الآية 22]
امر بعدها بالتوحيد: ”وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ“ [الاسراء ٢٤]
وتنتهي بالنهاية عن الشرك: “وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا” [سورة الإسراء، الآية 39]؛ فهذه اوامر ونواهي عدتها كما ذكر الشيخ في مسائله ثمانية عشر مسالة: ١- امر بالتوحيد ٢- ونهى عن الشرك، ٣- وامر ببر الوالدين، ٤- وامر بصله الارحام، ٥- ونهى عن التبذير، ٦- نهى عن قتل النفس بغير حق، ٧- نهى عن الزنا … الى غير ذلك، (فمحل الشاهد) بدا هذه الاوامر بالامر بالتوحيد وبدا هذه النواهي بالنهي عن الشرك، فاول شيء يصادفك وانت تقرا هذه الاوامر والنواهي الامر بالتوحيد والنهي عن الشرك النهي عن الشرك.
ما الحكمة من النهي عن الشرك قبل الامر بالتوحيد؟ قاعدة: التخلية قبل التحلية، فتنقية المكان من القاذورات والاوساخ قبل وضع الشيء الحسن والطيب فيه.
فأولا: يُخلى المكان من القاذورات ومن الاوساخ ومن العفن ومن النتن.
ثم: يوضع فيه الشيء الطيب، اما وضع الشيء الطيب في الوسخ لا ينفع، بل يؤذي ما وضع فيه؛ ولهذا التَّخْلِيَةُ قبل التَّحْلِيَةُ، وهل هناك قاذورات اوسخ واعم من الشرك؟ لا اله (النفي للتخلية) الا الله (الاثبات للتحلية).
ما هي عاقبة الشرك في الاية؟ في قوله تعالى : “فَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا” [سورة الإسراء، الآية 22] هذه ثمرة من مئات الثمرات المُرَّة، التي يجتنيها من يشرك، قال السعدي : أي يصيبك في الدنيا الذم واللوم، وتُحرم التوفيق والنصرة، لأن المشرك لا يُعان، ومن تخلى عن الله تخلى الله عنه.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}
ما معنى ”القضاء“ في الاية؟ قال تعالى: ”وَقَضَى رَبُّكَ“ وقضى: اي أَمَرَ، وهو قضاء شرعي؛ لان القضاء يطلق في النصوص ويراد به تارة:
النوع الاول من القضاء: القضاء الكوني القدري، في قوله تعالى: فقضاهن سبع سماوات، هذا قضاء كوني قدري، (لا بد ان يقع ولا يَتَخَلَّف).
النوع الثاني من القضاء: يراد به القضاء الشرعي الديني، كما في هذه الاية ”وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ“ اي وصى وامر، (ممكن ان يقع وممكن ان لا يقع اي ممكن ان يَتَخَلَّف).
فليس القضاء هنا القضاء الكوني؛ لانه لو كان المراد بالقضاء هنا الكون لم يتَخَلَّف مراد الله عز وجل، الكون لا يتخلف، اذا اراد شيئا كونيا يكون لا يتخلف ابدا، الا له الخلق والامر سبحانه وتعالى.
فما هو اعظم ”نهي“ واعظم ”امر“ من الله؟ بدائت الوصية بالتوحيد، فدل هذا السياق المبارك على ان التوحيد اعظم الوصايا، والنهي عن الشرك اعظم شيء نهى الله عنه، وهذا الذي لاجله ساق المصنف رحمه الله هذه الاية في هذا الموطن لاجله.
اذن سياق الايات للان :
الاية الاولى: وقول الله تعالى: {وََمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: ٥٦] الغاية من خلق الثقلين.
الاية الثانية: وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: ٣٦] الغايه من بعثه الرسل.
الاية الثالثة: وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً …} [سورة الإسراء آية: ٢٤] في بيان ان التوحيد اعظم الوصايا واجلها على الاطلاق.
الاية كاملة : "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًاۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاۖ وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا“ [سورة النساء، الآية 36]
هل لهذه الاية اسم عند اهل العلم؟ نعم، هذه الاية يسميها اهل العلم اية الحقوق العشرة؛ لان الله سبحانه وتعالى ذكر فيها حقوقا عشرة.
ما هي الحقوق العشرة في الاية؟ ١- حقّ الله تعالى، ٢- حقّ الوالدين، ٣- حقّ ذوي القُربى، ٤- حقّ اليتامى، ٥- حقّ المساكين، ٦- حقّ الجار ذي القُربى -وهو الجار مع صلة القرابة-، ٧- حقّ الجار الجُنب (أي البعيد في النسب) ٨- حقّ الصاحب بالجنب (فُسّر بالزوجة، أو كل من يرافق) ٩- حقّ ابن السبيل (أي المسافر المنقطع عن بلده واهله)١٠- حقّ ما ملكت أيمانكم.
فنلاحظ : انه بداها سبحانه بحقه الذي هو اعظم الحقوق واجلُّهَا، وهو افراده سبحانه وتعالى بالعبادة وعدم اتخاذ الشَّرِيْك، ”وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًاۖ“ فهذا حق الله سبحانه وتعالى، ثم ذكر حقوق العباد وبداها باعظم العباد حقا الوالدين، ثم ذكر حقوقا اخرى كما ذكرنا.
حق الله على العباد، وحق العباد على الله: -وسياتي معنا ان شاء الله- في الدلالة على هذا الامر العظيم، حديث معاذ لما كان رَدِيْفَ النبي ﷺ على حِمَار وقال: اتدري يا معاذ ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله اعلم. قال ﷺ: حق الله على العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وفي اية الحقوق هذه قال: ”وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًاۖ“. وهو الحق المقدم على كل شيء، وبه يبدا قبل كل شيء، والواجب البدء بما بدا الله به.
قاعدة مهمة قعَّدها النبي ﷺ: عندما صعد ﷺ على الصفا ماذا قال؟ قال ﷺ: نبدا بما بدا الله به، ان الصفا والمروة من شعائر الله، فبدا ﷺ بالصفا، لماذا؟ قال نبدا بما بدا الله به، وكل منهما جبل لكن بدا ﷺ من حيث بدا الله، بدا الله بالصفا فبدا النبي ﷺ سعيه من الصفا، واذا كان ﷺ بدا بما بدا الله به في هذا الامر، فكيف باعظم شيء وهو توحيد الله سبحانه وتعالى؟
عنوان الكتاب: فالمصنف رحمه الله جعل عنوان كتابه كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ودلائل كون التوحيد هو حق الله على العبيد مثل هذه الاية -اية الحقوق-، ومثل حديث معاذ، ومثل قول الله سبحانه وتعالى ”ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ“ [سورة الحج، الآية 62]
قال رحمه الله: وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام آية: ١٥٣]
ما اسم هذه الاية؟ وهذه الاية والايتين التي تليها يسميها اهل العلم ايضا ايات الوصايا العشر، والايات كاملات : "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)“ [سورة الأنعام (الآيات 151 – 153)] والوصايا العشر هي: التوحيد، برّ الوالدين، تحريم قتل الأولاد، تحريم الفواحش، تحريم القتل، حفظ مال اليتيم، العدل في الكيل والميزان، العدل في القول، الوفاء بالعهد، اتباع الصراط المستقيم.
بماذا بدأ بهذه الايات وبماذا انتهى؟ وهي ايضا:
بُدئت بالوصية بالبعد عن الشرك (التخلية).
وانتهت هذه الوصايا بقوله ” وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “.
على ماذا تدل هذه البدايات في وصايا القران؟ على ان التوحيد هو اعظم الوصايا واجلها على اطلاق، ”قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا“ هذا اعظم ما حرمه الله عز وجل، الشرك.
لو جاء في القران الامر بالعبادة فعلى ماذا يدل؟ الامر بالعبادة اذا جاء وحده ايضا يدل على النهي عن الشرك، قول الله عز وجل يا ايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبل لعلكم تتقون، فقوله اعبدوا ربكم هذا فيه الامر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وكل امر بالعبادة كما مر معنا امر بالتوحيد والتوحيد هو افراد الله عز وجل بالعبادة والبراءة من الشرك.
لماذ ساق هذا الاثر؟ للتاكيد على اهمية هذه الوصايا.
هناك احاديث اخرى دلت على هذا الاثر: وهذا الذي جاء في هذا الاثر دلت عليه احاديث ونصوص كثيره كقوله ﷺ تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله، فهو ﷺ وصيته كتاب الله جل وعل، وهذه العشر -التي جاءت مبدوءه بالامر بالتوحيد والنهي عن الشرك- هي اعظم الوصايا واجلها على الاطلاق؛ فاراد المصنف رحمه الله ان ينبه على اهميه هذه الوصايا العشر فساق هذا الاثر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ما هي الوصية التي عليها الخاتم؟ هي الوصية التي كُتِبَت وحرِّرَت وضُبِطَتْ واودِعَت في في وعاء وختم عليها، فكانه يقول: اذا اردت ان تقرا وصيه النبي ﷺ التي ختمت بخاتم ولم تكسر وضبطت فاقرا هذه الايات، (فكأن ابن مسعود يشير إلى أن هذه الوصايا هي الوصية النبوية المعنوية المختومة بخاتم الرسالة).
شرح الحديث: كنت رَدِيْفَ النبي صلى الله عليه وسلم على حِمَار، يسوق الخبر ويذكر القصة والحال التي كان عليها في سماعه لهذا الخبر من نبي الله ﷺ، فوقت سماعه للنبي ﷺ وهو يخبره بما سياتي يقول كنت رديفه على حمار اي انه هو راكب خلف النبي ﷺ على حمار.
ما الحكمة من ذكر الركوب على حمار؟ قال العلماء وهذا فيه تواضع النبي صلى صل الله عليه وسلم يركب الحمار، مع انه في زمانه فيه ما هو افضل منه، فكان يركب الحمار ويتنقل عليه في سكك المدينه ﷺ، ويُرْدِف من اصحابه، وفيه جواز الارداف على الدابة (اذا كانت مُطِيْقَة، اما اذا كانت لا تُطِيق فلا يحل)، فكان ﷺ، فاردف معاذ، واردف ابن عباس، واردف الفضل ابن عباس، واردف عدد من الصحابة، حتى احد السلف افرد رسالة مطبوعة بعنوان من اردفهم النبي ﷺ على الحمار.
وصف النبي ﷺ ركوب البعير في التوراة: وصفه جاء في التوراة ﷺ، الضحوك القتال يركبُ البعير ويلبس الشملة، ويجتزأ بالكسرة وسيفه على عاتقه، كما جاء في بعض نصوص التوراة.
نكمل شرح الحديث: فقال ﷺ: يا معاذ، وهنا انظر الى اللطف الذي يجذب القلب، ويهيئ النفس، يا معاذ يناديه باسمه هذا النداء اللطيف وهو راكب مع النبي ﷺ على الحمار، ثم قال: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ وهذه ايضا طريقة في التعليم عظيمة جدا، يسال ليهيئ الذهن لسماع الاجابة، وكثيرا ما تتكرر هذه الطريقة في احاديثه ﷺ، بخلاف لو أُلقِيَ الامر ابتداءا بدون سؤال قد لا يتنبه له المُلْقى عليه، قال معاذ : قلت : الله ورسوله اعلم، وهذا فيه ادب المسلم فيما اذا سُئل عمَّا لا يعلم، فيحيل العلم الى عالمه؛ فمعاذ مع الرسول ﷺ والوحي يتنزل على رسول الله ﷺ والدين يُتلقى منه ﷺ، فقال الله ورسوله اعلم، فقال ﷺ:
اولا حق الله على العباد : ”حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا،“، فحقه يتضمن امرين:
الامر الاول : يتضمن فعل العبادة، والقيام بها، وافراده سبحانه وتعالى بها.
الامر الثاني: البعد عن الشرك ”ولا يشركوا به شيئا“ اي شيء كان، والنكرة في سياق النفي تَعُمُّ، اي اي شيء من الشرك قليل او كثير صغير او كبير لا يشرك به شيئا هذا هو حقه سبحانه.
ما هو واجب المسلم نحو هذا؟
تاتي الامور السبعة -التي ذكرناها في بداية الامر-، الامر الاول : مَحَبَّتُهُ، الامر الثاني: ان تَتَعَلَّمَهُ، الامر الثالث: ان تعزم في قلبك عزما اكيدا على العمل به، الامر الرابع: فبعد العزيمة، تَعْمَل. الامر الخامس: ان يقع العمل منك على المشروع، الامر السادس: تحذر من مُبْطِلاتِ العَمَل، الامر السابع: ان تثبت على هذا الامر وتساله سبحانه وتعالى ان يُثَبِّتَكَ عليه.
ما الخطورة من عدم تعلم التوحيد؟ ان لا يدري ما هو التوحيد ليعمل به، ولا ما هو الشرك ليحذر منه، فاذا عرف المسلم ان هذا حق لله على عباده، وان الله خلقه لاجله، واوجده لتحقيقه، فيجب عليه ان يعطيه وقته تعلما، ودراسة، وتفهما، ومذاكرة.
اذن حق على على عباده في امرين:
الاول: ان يعبدوه - هنا تعلم العبادة ليُفعَل.
الثاني: ولا يشرك به شيئا - هنا تعلم الشرك ليُتْرَك. كما قال من قال: تعلم الشر لا للشر ولكن لتَوَقِّيْهِ، فان من لم يعرف الشر من الناس يقع فيه. ويقول حذيفة بن اليمان: كان اصحاب رسول رسول الله ﷺ يسالونه عن الخير، وكنت اساله عن الشر مخافته. فالشر يعرفه الانسان ليحذر منه.
فنحن نتعلم الكبائر ليس لفعلها بل لتركها : افرد غير واحد من اهل العلم كتبا في الكبائر، والغرض من هذه الكتب عد الكبائر واحدة تلو الاخرى، الكبيره الاولى الشرك، الكبيرة الثانية القتل، الكبيرة الثالثة الزنا، الكبيرة الرابعة السرقة، وهكذا يعدون الكبائر ويذكرون على كل كبيرة ما يدل عليها من ايات واحاديث، لماذا يؤلف في الكبائر؟ يتعلمها الناس ويعرفونها لتُحْذَر، ولما انصرف الناس عن تعلم هذه الاشياء وقعوا فيها.
بل هناك كتاب مؤلف عن ابليس: ولهذا ابن الجوزي في كتابه تَلْبِيْس ابلِيْس، كتاب مفرد ليبين المداخل والطرق والسائل التي ينفذ منها ابليس على الانسان. ومثل ايضا اغاثة اللهفان، لماذا تشرح هذه الامور حتى يحذر الانسان.
اذن قاعدة مهمة: ان في تعليم الشر، تحذيرا منه.
وقاعدة عظيمة ايضا في هذا الباب: قال احد السلف: كيف يتقي من لا يدري ما يتقي يتقي، من لا يدري ما يتقي كيف يتقي الشرك؟
ثانيا حق العباد على الله: ”وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا“، وهذا فيه فضيله التوحيد، وان من لا يشرك بالله شيئا لا يعذبه الله، وياتي في هذا المعنى احاديث كثيرة مثل: ان الله حرم على النار من قال لا اله الا الله يبتغي بذلك وجه الله، ومثل ايضا: -ما سياتي- يا ابن ادم لو اتيتني بقراب الارض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا اتيتكك بقرابها مغفرة، وسياتي في هذا المعنى نصوص عديدة.
الموحدين على نوعين: -كما سياتي بيان ذلك- من لم يشرك بالله شيئا، وحقق توحيده، فهذا يدخل الجنة بدون حساب ولا عذاب، واما انه لا يشرك ولا يقع في ناقل من الملة، لكن عنده كبائر وقع فيها لنقص ايمانه وضعفه، فهذا قد يُعَذَّب في النار على قدر جرائمه وذنوبه، وتعذيبه فيها تعذيب تطهير وتنقيه، لا تعذيب تخليد، كما هو الحال في المشرك فهو يعذب في النار عذاب تخليد؛ لان الشرك لا تطهره النار.
اذن عذاب النار نوعين : الاول : عذاب تطهير وتنقية لعصاة الموحدين، واهل الكبائر يتفاوتون في خروجهم من النار كما جاء في الحديث يخرجون ضبائر، وضبائر، يعني جماعات جماعات؛ لان جرائمهم وكبائرهم متفاوته ليسوا فيها على درجة واحدة.، والثاني: عذاب تخليد لا يُنقيه شيء.
نكمل شرح الحديث: معاذ رضي الله عنه سر بهذا الخبر وفرح به اعظم فرح؛ ولهذا قال: يا رسول الله، أفلا أبشرُّ الناس؟ فهذا هذه بشارة، وهذا امر مفرح جدا للجميع، مع ان الكثير من الناس قد يسمع هذا الحديث ولا يكن له وقعا في نفسه، لا يكون له وقعا في نفسه بينما معاذ طار من الفرح بسماع هذا الخبر، واستاذن من النبي ﷺ ان ياذن له بتبشير الناس، فاخذ اهل العلم من الحديث استحباب بشارة المسلم بما يسره، ومجرد ما وجد معاذ هذا الذي سره اراد ان يبشر به الناس افلا ابشر الناس، وسمعه وهو صغير من صغار الصحابة -رضي الله عنه- وكثير من الناس يسمع هذا الخبر وامثاله ونظائره فلا يكون له اي وقع في قلبه بسبب الغفلة العظيمة التي ملات القلوب، فقال له ﷺ: لا تبشرهم فيتكلوا اي يتكلوا على على هذا الامر ويحصل منهم نوع من التراخي او الفتور عن العمل، وهذا يحصل عند بعض الناس، ياخذ بعض ايات الرجاء ويتكل عليها، مثل من يقول: من قال: لا اله الا الله دخل الجنه وان زنى وان سرق، وينسى احاديث اخرى في الوعيد وفي العقوبة وفي التهديد لو استحضرها وتاملها لاثرت فيه ونفعته، والاتكال الذي يكون بسماع هذا الخبر ليس لكل احد، فالذي يكون عنده بصيرة والمام ومطالعة ومراجعة لمجموع الادلة ما يتكل على نصوص الوعد مهملا نصوص الوعيد.
فخوف النبي ﷺ: من من الاتكال ان يقع في في الناس او او في افراد من الناس من يتكل على على هذا الامر و يدع العمل قال لا تبشرهم فيتكلوا.
ما هو الاصل او الدليل الذي استطاع معاذ بن جبل رضي الله عنه من خلاله ان يحدث بما نهاه النبي ﷺ عن التحديث به؟ معاذ في الرواية بين سبب اخباره بالحديث وهو عند موته اخبر به، انه:
اولا: خشي ان يموت وقد كتم شيئا؛ فلهذا اخبر.
ثانيا: ان المقصود قد حَصَل بهذا الاخبار، يعني معرفة الحق والحذر من الاتكال.
لماذا نقل معاذ هذا الخير اذاً؟ بما انه جاء عن معاذا رضي الله عنه انه اخبر بذلك عند موته؛لانه خشي من الاثم بان يكتم او يموت ولم يذكر هذا العلم العظيم، و كان في هذه الطريقة نصح عظيم للامة فعرفوا الامر وحذروا من الاتكال بطريقة عظيمة جدا ارادها الله سبحانه وتعالى لعباده، عرفوا الامر وعرفوا الحكم وحُذّروا من الاتكال فكانه قيل لك وانت تسمع هذا الحديث: من مات لا يشرك بالله شيئا لا يعذبه الله واياك ان تتكل على هذا الامر تاركا الاعمال متخلي عنها فان من وراء ذلك عقوبات وعقوبات، فجاء الحكم او الامر ومعه التحذير من الاتكال.
مذاهب ضلت في هذا الامر وركنوا الى الاتكال: قامت مذاهب عرفت عند اهل العلم بمذاهب المرجئة، اهل الارجاء، فتخلوا عن العمل، ولم يعدوا العمل من الايمان واستهانوا به واستخفوا بامره، لذلك قال ﷺ لا تبشرهم فيتكلوا، وعند اهل السنة قاعدة في تعريف الايمان : الايمان قول وعمل يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
فضيلة معاذ رضي الله عنه: حيث خصّه النبي ﷺ بهذا الامر و واخبره بهذا الخبر، وفيه ايضا مكانته وفقهه رضي الله عنه.
الشاهد من الحديث: ان فيه بيانا لان التوحيد هو حق الله على عباده، وفيه فضيله التوحيد، وان الله عز وجل لا يُعذب من لا يشرك بالله شيئا، وسياتي عند المصنف رحمه الله باب في فضل التوحيد وتكفيره للذنوب.
ثم بعد ذلك بدا المصنف رحمه الله بالمسائل المسائل عاده ياتي بيانها في في ضمن الشرح لان المقصود بالمسائل تنبيه من يقرا الكتاب الى الاستفاده من هذه الادله فينبه ماذا في هذه الادلة من استنباطات وماذا يؤخذ منها من مسائل فنمر عليها مرورا سريعا.
الغرض من المسائل : الغرض من هذه المسائل مساعدة طالب العلم فليس كل قارئ يستطيع ان ينتبه، فقد ينتبه كثير ممن يقرا الكتاب الى ان فيها دلالة على ان التوحيد هو الغاية من الخلق، ومن لم ينتبه ياتي في المسائل وينبهه المصنف رحمه الله على ذلك؛ ولهذا المسائل كما سياتي كثير منها امور واضحة، لكنه ينبه الشيخ رحمه الله حتى من لم ينتبه او من لم يكن ذهنه حاضرا، وفي ايضا عدد من من المسائل الاتية هنا وغيرها تحتاج الى استنباط ليس كل احد يتمكن من استخراجها او الانتباه لها فينبه على امور واضحة وامور لا تكون واضحه لكل احد.
هل هذه المسائل من وضع شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب؟ هذه المسائل نعم الذي وضعها هو الشيخ رحمه الله وهي تدل ايضا على دقة علمه، وحسن استنباطه وفهمه وتنبيهه رحمه الله ونصحه، في نهايه كل مسالة يضع هذه المسائل تنبيها للقارئ ان يتنبه لها، فانت تقرا هذه المسائل ان كنت انتبهت الحمد لله، ما انتبهت ينبهك الشيخ حتى ترجع الى الايات فتنتبه الى ما لم تنتبه له؛ فالمسائل هي بمثابه تنبيهات.
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
هذه من قوله تعالى {وََمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: ٥٦].
الثانية: أن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه.
حول قوله : لان الخصومه فيه؛ اي بين الانبياء واممهم واقوامهم، فالخصومة في التوحيد، يقول ( أن العبادة هي التوحيد) لماذا؟ قال (لأن الخصومة فيه)؛ لان الانبياء بعثوا في اقوام -ولاحظوا- بعثوا في اقوام يعبدون الله، فهم لم يتركوا عبادة الله مطلقا كلية، بل يعبدون الله ولكنهم اشركوا معه غيره في العبادة، فلما يقول لهم اقوام اعبدوا الله، فهل يطلبون منهم شيئا لم يقع منهم فعله اصلا؟ ام انهم فعلوا ولكنهم سووا غير الله بالله ؟ فنقول : الخصومة بين الانبياء واقوامهم في التوحيد ليست في ان الله يُعبد او لا يُعبد، هم يعبدونه، ويحبونه، ويقومون بانواع من العبادات، ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله اذاً يحبون الله، ولكن يسوون غيره بالمحبة، يعبدون الله ولكن يسوون غيره به في العبادة، فالانبياء لما قالوا لهم اعبدوا الله هل المراد مجرد فعل العبادة، ولو كان ثمة تسوية لغير الله بها؟ لا، فمراد الانبياء بقولهم اعبدوا الله (ما لكم من اله غيره)، فالمراد بذلك (وَحِّدُوُهُ).
قاعدة عند السلف : كل امر بالعبادة في القران امر بالتوحيد، لماذا؟ لان الخصومة فيه، الخصومه بان يوحد الله بالعبادة وان يُخَصَّ بها دون غيره، ليست الخصومه في ان الله يعبد او لا يُعبد، هم يقولون يعبدونه ويحبونه، ولكنهم لا يخلصون العبادة له، فقول الانبياء لهم اعبدوا الله اي وحدوا الله وقوله وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون اي الا ليوحدون، ما الدليل؟ لان الخصومة فيه.
الخصومة: انهم كانوا اي المشركين اذا قيل لهم لا اله الا الله يستكبرون ويقولون اانا لتاركوا الهتنا لشاعر مجنون؛ فالخصومه بينهم في التوحيد في ان يَخُّصوا الله عز وجل بالعبادة.
كيف رد المشركون على هذه الاوامر بالتوحيد وحدثت الخصومة؟ ” وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ “ [سورة ص، الآية 6]، وفي الاية الاخرى:“ قَالُوا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ۚ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا “ [سورة ص، الآية 60]، فاذن: الخصومة التي وقعت بين الانبياء واقوام في التوحيد، اما مجرد العبادة موجودة.
لماذا وصفوا بالشرك؟ كلمة الشرك التي وصفوا بها تدل على ماذا؟ تدل على انهم يعبدون الله في جملة من يعبدون؛ لان الشرك التسوية، فكلمة شرك تدل على انهم يعبدون الله في جملة من يعبدون، وفي تلبيتهم يقولون: ”لبيك لا شريك لك، الا شريكا هو لك، تَمْلِكُهُ ومَا مَلَك“ فهم يلبون، فالمشكلة عندهم ليس في وجود العبادة نفسها لكنهم جعلوا مع الله فيها شريك.
اذن القاعدة الذهبية الاساسية الفاصلة: العبادة هي التوحيد. فقوله -رحمه الله- ان العبادة هي التوحيد هذه قاعدة، (كل امر في القران بالعبادة، هو امر بتوحيد الله سبحانه وتعالى)؛ لان الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله. ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: ٣].
يعني: من لم ياتي به -اي بالتوحيد- لم يعبد الله؛ لان عرفنا ان العبادة هي التوحيد، فمن لم ياتي بالتوحيد لم ياتي بالعبادة، مثل الذي صلى ولم يتوضا، فشان التوحيد في العبادة مثل شان الطهارة في الصلاة، من صلى ولم يتوضا يقال لم يصلي، ارجع فصلي فانك لم تصلي، وصلاته لا قيمة لها ولا تقبل اذا كانت على غير طهارة، فلا تقبل الصلاة الا بطهارة ولا تقبل العبادة الا بالتوحيد.
القاعدة: ان وُجِدَ التّوحيد صَحّت العبادة، وان لم يوجد بَطَلَت، "وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ“ [سورة الزمر، الآية 65] وكل عبادة لم تقم على التوحيد شانها كما قال الله: "وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا“ [سورة الفرقان، الآية 23]
تفسير قوله تعالى: (وَلا أَنْتُمْ) اي ايها المشركون (عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)، قال لهم ذلك مع انهم يعبدون الله في جملة من يعبدون، فهم يعبدون اللات، يعبدون العزة، يعبدون منات، جملة من يعبدون ايضا يعبدون الله، قد جاء في المسند [باسناد جيد] ان النبي ﷺ قال لاحدهم: كم الها تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الارض وواحد في السماء. فهم يعبدون الله ولكن يعبدون معه غيره، ومع كون هؤلاء يعبدون الله امره الله ان يقول لهم (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)؛ لان من لم يُخلص العبادة لله لم يعبد الله، وما وقع منه من عبادة لله وهو يعبد غيره لا قيمة لها، وفي الحديث قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركتُه وشِركَه).[أبو هريرة رضي الله عنه، رواه مسلم في صحيحه (حديث رقم 2985)]،
الرابعة:الحكمة في إرسال الرسل.
الحكمه في ارسال الرسل: في قوله تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ"[سورة النحل، الآية 36]؛ فالحكمه في ارسالهم الدعوة الى التوحيد.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
وهذا اخذه من قوله: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا (فِي كُلِّ أُمَّةٍ) رَسُولًا …“ [سورة النحل، الآية 36]
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
اخذه من الاية: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا -لماذا بعثوا؟- أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ“[سورة النحل، الآية 36]؛ فدين الانبياء واحد، ومثله ما في ومثل الاية ما في الحديث: نحن معاشر الأنبياء إخوةٌ لعلّات، دينُنا واحدٌ، وأمهاتُنا شتى. [عن أبو هريرة رضي الله عنه. رواه البخاري (حديث رقم 3443) ومسلم (حديث رقم 2365)]. ديننا واحد اي عقيدتنا واحدة، وامهاتنا شتّى اي شرائعنا مختلفة، وكثيرا ما ياتي في احاديث النبي ﷺ تقريب الامور بالامثلة (خوةٌ لعلّات) فهذا مثل لتوضيح المقصود، فابناء العلَّات يعني ابناء الضرائر، الزوجات لزوج واحد يقال لهن عَلَّات، ويقال لهن ايضا ضرائر، فابناء العَلَّات ابوهم واحد، وامهاتهم شتى، اي عقيدتنا واحدة، والشرائع تختلف بحسب احوال الناس، وسمُّيِت الزوجة على الزوجة عَلَّة؛ لان العَلُّ (لأن كل واحدة من الزوجات تُعَلّ الأخرى، أي تشاركها في الزوج).
السابعة: المسألة الكبيرة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت ففيه معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: ٢٥٦].
القاعدة: اذا لم يكن كُفْرٌ بالطاغوت فلم تكن عبادة، ففيه معنى قوله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: ٢٥٦].
ما هي (الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)؟ كلمة التوحيد: لا اله الا الله، فلا يكون مستمسكا بها الا بالكفر بالطاغوت، اذا لم يكفر بالطاغوت لا يكون مستمسكا بالعروة الوثقى. وياتي معنا في تفسير التوحيد عند المصنف باب تفسير التوحيد قول الله قول النبي ﷺ: من قال لا اله الا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، فاشترط الكفر بما يعبد من دون الله لانعقاد التوحيد؛ فالتوحيد لا ينعقد الا بالكفر بما يعبد من دون الله، "إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ"[سورة الزخرف، الآيتان 26–27] فلا ينعقد التوحيد الا بالكفر بالطاغوت (ما يُعبد من دون الله).
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله.
الطاغوت: كل ما عُبِدَ من دون الله فهو لا يستحق؛ لان الذي يستحق العبادة هو الله، "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ"[سورة الحج، الآية 62] (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) ايا كان (هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)، فالعبادة حق للعلي الكبير وهو الله سبحانه وتعالى.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المُحكمات في سورة الأنعام عند السلف، وفيها عَشر مسائل. أولها: النهي عن الشرك.
نبه -رحمه الله- على الايات التي في في سورة الانعام وعظم شانها عند السلف؛ لان شانها عندهم بمثابه الوصية المُحَرَّرَة المكتوبة المختوم عليها، فلها مكانه عاليه ومكانة رفيعة في نفوس السلف، وهي مشتملة على عشر وصايا بدئت بالامر بتوحيد الله سبحانه وتعالى -وقد مرت معنا-.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثمانية عشر [هكذا بالأصل; والصواب ثماني عشرة] مسألة، بدأها الله بقوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} [سورة الإسراء آية: ٢٢] وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: ٣٩] ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [سورة الإسراء آية: ٣٩].
ثم نبه هنا -رحمه الله- على المسائل المُستفادة من الايات التي في سورة الاسراء:
وقد بُدئت بقوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً}
وختمت بقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}
وقال الشيخ فيها: ثماني عشرة مسألة، يعني في هذا السياق ثماني عشرة مسالة -اي امر ونهي- وهذه المسائل الثمانية عشر مبدوءة بالنهي عن الشرك، مختومة بالنهي عن الشرك، بدئت بقوله (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ) وختمت بقوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ)، وهذا البدء والخَتِم يدلُّ على عظم شان التوحيد وانه اول الامر واخره واساسه.
تنبيه من الشيخ: قوله -رحمه الله- (وفيها ثمانية عشر) تنبيه لطالب العلم ان يراجع الايات ويستخرج هذه المسائل، وهذه الايات للفائدة : "لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا - وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا - وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا - رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا - وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا - إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا - وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا - وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا - إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا - وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا - وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا - وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا - وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا - وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا - وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا - وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا - كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا - ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا“ [سورة الإسراء، الآيات 22–39]“ وهذه الوصايا هي: ١- النهي عن الشرك، ٢- الإحسان إلى الوالدين، ٣- النهي عن العقوق، ٤- الأمر بإعطاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقه، ٥- النهي عن التبذير، ٦- النهي عن الإسراف، ٧- النهي عن البخل والتقتير، ٨- النهي عن قتل الأولاد خشية الفقر، ٩- النهي عن الزنا، ١٠- النهي عن قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ١١- النهي عن أكل مال اليتيم، ١٢- الأمر بالوفاء بالعهد، ١٣- الأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط، ١٤- النهي عن اتباع ما لا علم لك به، ١٥- النهي عن الكبر والاختيال، ١٦-بيان أن جميع ذلك من الحكمة التي أوحاها الله إلى نبيه، ١٧- الأمر بعبادة الله وحده، ١٨- والتحذير من اتخاذ إله آخر معه. "ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ" [الإسراء: ٣٩].
الحادية عشرة. آية سورة النساء التي تُسَمَّى: آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: ٣٦].
عرفنا ان هذه اية المعروفة باية الحقوق العشرة فيها دلالة على ان التوحيد اعظم الحقوق واجلها على الاطلاق.
الثانية عشرة. التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته.
التنبيه على وصيه رسول الله ﷺ عند موته -اي الاهتمام بهذه الايات العشر- كما في اثر ابن مسعود رضي الله عنه، قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خَاتَمُهُ فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} - إلى قوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [٣ هذا الأثر رواه الترمذي وحسنه, وابن المنذر, وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه، رواه الإمام الترمذي في "السنن" (رقم 3070)]
الثالثة عشرة. معرفة حق الله علينا.
في حديث معاذ الذي سبق (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا..) [رواه البخاري (2856) ومسلم (30)] فحق الله على العباد: يعني الحق الذي يطلب من العباد ان يقوموا به، وهو العباده عبادة الله واخلاص الدين له؛ لانه سبحانه وتعالى هو المتفرد بخلقهم ورزقهم وايجادهم والانعام عليهم، فحقه عليهم ان يعبدوه ويخلص العبادة له ويخصوه وحده بالطاعة، فهذا حقه جل وعلا على عباده، ويعاقبهم اذا ضيعوه ولم يقوموا به.
الرابعة عشرة. معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
ايضا في حديث معاذ الذي سبق (…وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا) [رواه البخاري (2856) ومسلم (30)] وحق العباد على الله: هذا حق اوجبه الله سبحانه وتعالى على نفسه تكرما وتفضلا وليس واجبا بالمقابلة؛ لان مهما قام به العبد من عمل ومن عبادة فلا يُمكن ان يُقابل احسان الله اليه واثابته؛ ولهذا جاء في الحديث لن يدخل احد الجنة بعمله، قالوا: ولا انت يا رسول الله قال: ولا انا، الا ان يتغمدني الله برحمته.
الخامسة عشرة. أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
ان هذه المسالة -يقصد حديث معاذ- لا يعرفها اكثر الصحابة، وهذا واضح في قول لا تبشر الناس؛ لانه لو كان لو كانت معروفة عند الكثير ما احتاج الامر الى ان يقول افلا ابشر الناس؟
السادسة عشرة. جواز كتمان العلم للمصلحة.
يعني لمصلحة من يُكتَم عنه العلم، قال علي رضي الله عنه : حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ ورَسولُه؟ [صحيح البخاري (127)]، فاذا اقتضت المصلحة ان يُكتم علم الانسان لقصور علمه، او مثلا لعدم فهمه، او لانه يُخشى عليه من الغَلَط او نحو ذلك، فيجوز.
السابعة عشرة. استحباب بشارة المسلم بما يسره.
وهذا اخذه من قول معاذ: افلا ابشر الناس، فهذا امر سرَّ معاذ فرغب ان يبشر الناس بهذا الذي يسرهم
الثامنة عشرة. الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
خوف النبي ﷺ على الناس من الاتكال على سعة رحمة الله، وهذا الاتكال يقع من الانسان اذا نَسِيَ عذاب الله وعقوبته، كان يقرا نبئ عبادي اني انا الغفور الرحيم ويقف عند هذا الحد ولا يتذكر ما بعده وان عذابي هو العذاب الاليم، فاذا كان يقف عند ايات الوعد واحاديث الوعد يحصل من الاتكال، وهذا يقع في كثير من العوام، فيقع في المعصية ويعلل لنفسه او لغيره بان ربك غفور رحيم، فيتكل على سعة الرحمة وينسى العذاب.
التاسعة عشرة. قول المسؤول عما لا يعلم " الله ورسوله أعلم ".
لان معاذا رضي الله عنه لما ساله النبي ﷺ عن الحقين، حق العباد، وحق الله، قال الله ورسوله اعلم، فهذا فيه ان من ادب من سُئِلَ عمَّا لا يعلم يقول ذلك، يقول: الله ورسوله اعلم، فالصحابة في زمن الرسول ﷺ يحيلون العلم الى الله والى النبي ﷺ؛ ولهذا قال بعض اهل العلم في هذا الزمان اذا سُئِل السائل عما لا يعلم يقول الله اعلم.
العشرون. جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
وهذا الامر يرجع الى المصلحة، والامن ايضا من الاشتباه او الالتباس او الوقوع في الخطا، وهذا فيه فضيلة من امتاز بحسن الفهم، وحسن العلم، وحسن الاستفادة، من غيره ممن ليس بكذلك فجواز تخصيص الناس ببعض العلم دون بعض، مثل ما حصل من تخصيص النبي ﷺ لمعاذ رضي الله عنه.
الحادي والعشرون. تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار، مع الإرداف عليه.
وهذا مع وجود دواب في زمانه خير من الحمار واحسن، ومع ذلك كان ﷺ يركب الحمار وهذا من تواضعه، وايضا يُردف من الصحابة معه وهذا ايضا من تواضعه ﷺ.
الثاني والعشرون. جواز الإرداف على الدابة [في إحدى النسخ الخطية زيادة: "إذا كانت تطيق ذلك"].
جواز الارداف على الدابة -اي ان كانت مطيقة وتحتمل-؛ فانه يجوز ان يُرْدَف عليها، اما اذا كانت لا تطيق فلا يجوز.
الثالث والعشرون. فضيلة معاذ بن جبل.
وهذا واضح من امور عديدة في الحديث منها تخصيص النبي ﷺ له بهذا العلم، نعم وسياتي معنا بعثه النبي ﷺ له الى اليمن قاضيا و جابيا للزكاه ومعلما وهذا ايضا من فضيلته رضي الله عنه.
الرابع والعشرون. عظم شأن هذه المسألة [في إحدى النسخ الخطية: "المسائل"].
اي مسالة التوحيد، وحق الله على العباد، وانه حق خالص لله جل وعلا لا يجوز صرفه لغيره، وما عدَّهُ الله سبحانه وتعالى من الثواب العظيم لمن حَقَّقَ ذلك.