نسبه ﷺ
نسبه ﷺ
استمع الدرس هنا
كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد
لشيخ الإسلام (أبو عبدِ الله شَمْسُ الدِّينِ) مُحَمَّدُ بنُ أبِي بَكرِ بنِ أيُّوبَ بنِ سَعْدِ بنِ حَرِيْزٍ الزُّرَعِيُّ الدِّمَشقِيُّ الحَنبَلِيُّ رحمه الله
شرح الامام حسن بخاري
تلخيص وجمع وتدوين الفقير الى الله طارق عتمه
في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في قصة لقاء هرقل عظيم الروم بأبي سفيان بن حرب رضي الله عنه، وكان أبو سفيان رضي الله عنه آنذاك على الشرك والكفر قبل أن يُسلم.
أرسله هرقل إليه في ركب من قريش، وكانوا قَدِموا إلى الشام في بعض تجاراتهم التي يأتون بها إلى أرض الشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مَادَدَ فيها أبا سفيان وكفار قريش - يعني في المدة التي كان فيها الصلح - قال : فأتوه وهم بإيلياء وهي من أدنى أرض الشام إلى جزيرة العرب، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم نسبًا - حدث هذا بعد صلح الحديبية، وصلح الحديبية سنة ست من الهجرة، وسنة سبع فتحت خيبر، وفي السنة الثامنة كاتب رسول الله عليه الصلاة والسلام العظماء والكبار والرؤساء إلى سنة تسع، وفي سنة عشر فتحت مكة فكان أبي سفيان بهرقل سنة صلح الحديبية التي وقف فيها القتال - قال هرقل لمن حوله : ادنوه مني - يعني ابو سفيان - وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل - يسأل أبا سفيان عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم - فإن كَذَبَنِي فكذبوه، قال أبو سفيان: فإنه والله لولا الحياء من أن يأثُرُوا عليَّ كذبًا لكَذَبْتُ عَليه، ثم قال : ثم كان أول ما سألني عنه أن قال : كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان : قلت: هو فينا ذو نسب - من يقول هذا الكلام عدو من أعدائه في تلك المرحلة، ولو استطاع أن يكذب نصف كذبة لفعل، فلما يشهد العدو في حال القتال وفي حال المخاصمة وفي حال الحرب، يشهد لعدوه بخصلة، فثق أنها أصدق ما تكون، والحق ما نطقت به الأعداء -فقال أبو سفيان هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قال لا، قال فهل كان من آبائه من مَلِكٍ؟ قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم قال يزيدون أم ينقصون؟ قلت يزيدون قال هل يَرْتَدُّ أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل ان يقول ما قال ؟ قلت لا، قال فهل يغدر؟ قلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها قال أبو سفيان ولم تُمْكِنِّي كلمة أُدخِلُ فيها شيئًا غير هذه الكلمة يعني هو الذي استطاع أن يعبر به بشيء من عداوته، فكان نوعًا من اللمز غير الصريح، قال هو أقصى ما استطعت أن أرمي به من الكلام بين يدي هرقل عظيم الروم، فقال له هرقل: فهل قاتلتموه قلت نعم - إلى أن أكمل المسائل - ثم قاله هرقل للترجمان : قل له : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا فقلت لو كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه .. إلى آخره ما استدل به هرقل وهو الكافر النصراني البعيد عن الإسلام، فما استدل به من تلك الأسئلة وإجابات أبي سفيان رضي الله عنه، وكان إذ ذاك مشركًا، استدل به على علامات دالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوته؛ ولهذا قال المصنف رحمه الله : فَلِنَسَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ أَعْلَى ذِرْوَةٍ، وَأَعْدَاؤُهُ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا شَهِدَ لَهُ بِهِ عَدُوُّهُ إِذْ ذَاكَ أبو سفيان بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الرُّومِ والمقصود كما قلنا بأبي سفيان قبل أن يسلم رضي الله عنه وأرضاه.
نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام ينقسم إلى قسمين :
القسم الاول : متفق على صحته، وهو القدر الذي ساق المصنف من (أبيه عبد الله إلى عدنان)، وعدنان من ولد إسماعيل. اذن المتفق عليه : مُحَمَّدُ ﷺ - بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - بْنِ هَاشِمِ - بْنِ عَبْدِ مَنَافِ - بْنِ قُصَيِّ - بْنِ كِلَابِ - بْنِ مُرَّةَ - بْنِ كَعْبِ - بْنِ لُؤَيِّ - بْنِ غَالِبِ - بْنِ فِهْرِ - بْنِ مَالِكِ - بْنِ النَّضْرِ - بْنِ كِنَانَةَ - بْنِ خُزَيْمَةَ - بْنِ مُدْرِكَةَ - بْنِ إِلْيَاسَ - بْنِ مُضَرَ - بْنِ نِزَارِ - بْنِ مَعْدِ - بْنِ عَدْنَانَ، وعدنان من ولد اسماعيل ﷺ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ: قِيلَ تِسْعَةُ آبَاءٍ، وَقِيلَ سَبْعَةٌ، وَقِيلَ عشرة آبَاءٍ، وَقِيلَ اربعون وَهُوَ بَعِيدٌ وَقَوْلٌ غَرِيبٌ، لَكِنْ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "مَا هُوَ وَجَدْنَا مَنْ يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ عَدْنَانَ وَلَا قَحْطَانَ إِلَّا تَخَرُّصًا" يَعْنِي لَا يُوجَدُ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ وَالْعِلْمِ بِهِ مَنْ يَجْزِمُ فِي النَّسَبِ، نَسَبِ الْبَشَرِ فِي الْعَرَبِ مَا وَرَاءَ عَدْنَانَ وَقَحْطَانَ.
القسم الثاني : المختلف فيه، ما كان فوق ذلك إلى آدم عليه السلام ، وربما ينتشر بين بعض الناس نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام ، وما قرره المصنف رحمه الله هنا من أن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيه عبد الله إلى عدنان معلوم الصحة متفق عليه، وما فوق عدنان فمختلف فيه، هكذا قرره أهل العلم، وهم يتكلمون عن نسب المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الذهبي رحمه الله : وعدنان من ولده إسماعيل لكن، اختلفوا فيما بين عدنان وبين إسماعيل من الآباء، فقيل بينهما تسعة آباء، وقيل سبعة، واختلفوا في أسماء بعض الآباء، وقيل بينهما خمسة عشر أبًا، وقيل بينهما اربعون أبًا وهو بعيد.
وأما عروة بن الزبير فقال : ما وجدنا من يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تَخَرُّصًَا، وقال أبو الأسود : سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة - وكان من أعلم قريش بأنسابها وأشعارها - يقول : ما وجدنا أحدًا يعلم ما وراء مَعَدِّ بن عدنان في شعر شاعر ولا علم عال، وقال ابي عمر بن عبد البر رحمه الله : والذي عليه أئمة هذا الشأن أنه عدنان ابن أُدَدْ، ثم ساق نسب عدنان إلى أبي البشر آدم عليه السلام ، وقال ابن سعد : الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل. وقال الحافظ بن حجر رحمه الله : روى الطبراني بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: استقام نسب الناس إلى مَعَدِّ بن عدنان؛ ولهذا قال ابن حبان رحمه الله : نسبةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصِحُّ إلى عدنان، وما وراء عدنان فليس عندي فيه شيء صحيح اعتمد عليه، ولما ساق النسب قال : إلى هنا ليس بين النسابين خلاف فيه، ومن عدنان هم مختلفون فيه إلى إبراهيم. وهكذا قال ابن حزم لما ساق النسب الشريف إلى عدنان، قال :هاهنا انتهى النسب الصحيح الذي لا شك فيه .
فكل علماء الأمة على ما قرره المصنف، أن نسب المصطفى عليه الصلاة والسلام معلوم إلى جده عدنان، وهو من ولد إسماعيل عليه السلام ، وأما ما وراء ذلك فمحل خلاف بين النَسَّابَة والجزم بأحد الطرق دون غيرها لا يثبت، فهذا أيها الكرام نسب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فاعلموه وعلموه أولادكم أكثر من نسبكم ونسب آبائكم؛ فإنه نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نحفظه هو والله أشرف وأفضل من أن نحفظ أنساب قبائلنا وأبنائنا وآبائنا وأجدادنا.
- بداية الدرس العاشر -
وَهنا فِي هَذَا السِّيَاقِ اسْتَطْرَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذِكْرِ جَدَّيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ يَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ قِصَّةِ ذَبْحِهِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الصَّافَاتِ مُعَرِّجًا عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، الذَّبِيحِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، هَلْ هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ رُسُلِ اللَّهِ كَرَامَةُ صَلَاةِ اللَّهِ وَسَلَامُهُ جَمِيعًا؟
أَوْجَزَتِ الْآيَاتُ وَفِي سُورَةِ الصَّافَاتِ قِصَّةُ الذَّبِيحِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى). وَوَقَعَ الْخِلَافُ: هَذَا الْغُلَامُ مِنْ وَلَدَيْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَمْ إِسْحَاقُ؟ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ هَاجَرَ أَمْ إِسْحَاقُ ابْنُ سَارَةَ؟ وَكِلْتَاهُمَا أَنْجَبَتْ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. هَذِهِ أَنْجَبَتْ لَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَتِلْكَ أَنْجَبَتْ لَهُ إِسْحَاقَ.
فَإِسْمَاعِيلُ جَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِسْحَاقُ جَدُّ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
فَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَسْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْحَصَرُوا فِي ابْنِهِ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
قال: إِسْمَاعِيلُ هُوَ الذَّبِيحُ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. فيُشِيرُ إِلَى خِلَافٍ فِي الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّهُ خِلَافٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَيْسَ مِنْ وَرَائِهِ أَيْضًا ثَمَرَةٌ فِقْهِيَّةٌ، إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ كِلَاهُمَا نَبِيٌّ كَرِيمٌ، ابْنُ خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُلُّهُمْ أَنْبِيَاءُ كِرَامٌ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ.
مسألة الذبيح بين اسماعيل واسحق :
يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ مَسْأَلَةِ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الذَّبِيحِ، هَلْ هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ قَالَ: "فِيهَا مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ". قَالَ: "وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَذْكُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ". وَفِي الْجُمْلَةِ يَقُولُ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَفِي الْجُمْلَةِ فَالنِّزَاعُ فِيهَا مَشْهُورٌ، والَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ". قَالَ: "وَهَذَا الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْمَشْهُورَةُ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ“، وَابْنُ الْقَيِّمِ هُنَا فِي الْكِتَابِ سَيَسْتَطْرِدُ قَلِيلًا فِي ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الذَّبِيحُ وَلَيْسَ إِسْحَاقَ، فَسَوَاءٌ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِثْبَاتُ مَنْقَبَةٍ وَفَضِيلَةٍ وَشَرَفٍ.
وَالْيَهُودُ يَزْعُمُونَ ذَلِكَ لِإِسْحَاقَ لِأَنَّهُ جَدُّهُمْ، وَيُنْكِرُونَ أَنَّهُ لِإِسْمَاعِيلَ لِأَنَّهُ جَدُّ الْعَرَبِ حَسَدًا وَبَغْيًا، وَالْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْإِمَامَ الْحَافِظَ ابْنَ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ قَالَ: "وَقَدْ قَالَ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ". فَلَا تَتَعَجَّبْ لَوْ وَجَدْتَ أَسْمَاءَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَذْكُرُونَ أَنَّ الذَّبِيحَ هو إِسْحَاقُ، فهَذَا قَوْلٌ مَأْثُورٌ وَمَشْهُورٌ كَمَا يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
القائل من العلماء : بان الذبيح اسحاق ﷺ
الَّذِي حُكِيَ الْقَوْلُ عَنْهُ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَإِذَا كَانَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ يَقُولُ بِذَلِكَ فَرُبَّمَا كَانَ هَذَا مَنْشَأَهُ مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِالتَّوْرَاةِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَالْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمَسْرُوقٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ“، وَسَاقَ أَسْمَاءَ جُمْلَةٍ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: "وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ الْإِمَامِ الْمُفَسِّرِ شَيْخِ الْمُفَسِّرِينَ". فَإِنَّهُ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهِ - الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ - رَجَّحَ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ - يَقُولُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -: "وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عَنْهُ وَعَنْ أَكْثَرِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ". وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
فالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هنا : ”الْقَوْلُ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ بَاطِلٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ عشرين وَجْهًا“، وهَذَا تَرْجِيحٌ يَصْنَعُهُ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ، وَإِذَا انْتَصَرَ أَحَدُهُمْ لِقَوْلٍ، أَوْ رَجَّحَ مَذْهَبًا فَضَعَّفَ مَا يُقَابِلُهُ، لَيْسَ هَذَا قَدْحًا فِي الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَلَا إِسْقَاطَ لِعِلْمِهِمْ، وَلَا ذَمًّا لِمَكَانَتِهِمْ، النِّقَاشِ الْعِلْمِيِّ وَإِثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ وَالِاحْتِجَاجِ وَرَدِّ مَا يُقَابِلُهُ أَمْرٌ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْقَدْحِ فِي مَكَانَةِ عِلْمِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا إِثْبَاتِ فَضْلِهِمْ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ مَا سَتَسْمَعُ مِنْ تَفْنِيدِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالْقَدْحِ فِي الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِهِ.
فِي نَصِّ نُسَخِ التَّوْرَاةِ الَّتِي فِيهَا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ ابْنِهِ، اللَّفْظُ فِي التَّوْرَاةِ يَقُولُ: "خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِّيَا اصْعِدْهُ هُنَاكَ..." إِلَى آخِرِ مَا قَالَ. لَفْظُ التَّوْرَاةِ "خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ". يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: "وَفِي بَعْضِ التَّرْجَمَاتِ الْأُخْرَى ”خُذِ ابْنَكَ بِكْرَكَ". السُّؤَالُ: مَنْ بِكْرُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ إِسْمَاعِيلُ أَمْ إِسْحَاقُ؟ إِسْمَاعِيلُ هُوَ بِكْرُهُ، ”خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ“، فلَوْ قُلْتَ التَّرْجَمَةُ لَيْسَتِ الْبِكْرَ الْوَحِيدَ، أَيُّهُمَا كَانَ وَحِيدًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ إِسْمَاعِيلُ. فالنص في التوراة يصف وصفا لا ينطبق الا على اسماعيل، لَكِنَّهُ أَوْرَدَ اسْمَهُ إِسْحَاقَ: "وَحِيدَكَ الَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ". فيَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَفِي تَرْجَمَةٍ أُخْرَى بكرك فَهِيَ تَرْجَمَةٌ وَلَيْسَتْ لَفْظًا آخَرَ فِي التَّوْرَاةِ". ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا الْيَهُودُ تَحْرِيفًا مِنْهُمْ، فَحَذَفُوا اسْمَ إِسْمَاعِيلَ وَأَوْرَدُوا اسْمَ إِسْحَاقَ فِي النَّصِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ، فَاللَّفْظُ أَوِ الْوَصْفُ لَا يَنْطَبِقُ إِلَّا عَلَى إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ مِنْهُمْ لَمَّا أَسْقَطُوا اسْمَ إِسْحَاقَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ".
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا بَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ قَالَ: (لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) لَمَّا جَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ، ”وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ“، هنا امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا السِّيَاقِ مَنْ هِيَ؟ سَارَة، وامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. يَعْنِي بشر به عليه السلام وأَنَّهَا تَعَجَّبَتْ أَنْ تُبَشَّرَ بِالْوَلَدِ عَلَى كِبَرِ سِنِّهَا وَمَا أَصَابَهَا، يَقُولُ مَوْضِعُ الشَّاهِدِ: مُحَالٌ أَنْ يُبَشِّرَهُمَا بِوَلَدٍ ثُمَّ يَأْمُرَهُ بِذَبْحِهِ، فهُنَا لَا تَتِمُّ الْبِشَارَةُ، فالْبِشَارَةُ مِنَ اللَّهِ الَّتِي يُدْخِلُ بِهَا السُّرُورَ عَلَى الْعَبْدِ لَا يُكَدِّرُهَا شَيْءٌ، فَلَوْ كَانَ إِسْحَاقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِهِ، لَمَا تَمَّتِ الْبِشَارَةُ.؛وَلِهَذَا فَإِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ وَلَيْسَ إِسْحَاقَ قَالَ: "لَا يُفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا هَذَا بَلِ الْمَفْهُومُ النَّصُّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ". قَالَ: "وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ وَلَيْسَ إِسْحَاقَ لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ)". قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: "فَكَيْفَ تَقَعُ الْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ، وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوبُ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ وَهُوَ صَغِيرٌ؟“ كَيْفَ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ وَهُوَ صَغِيرٌ وَالْبِشَارَةُ أَنَّ إِسْحَاقَ سَيُوَلَدُ لَهُ وَلَدٌ وَيُسَمَّى يَعْقُوبُ؟ هَذَا مَا يَسْتَقِيمُ". فَيَقُولُ: "هَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ، أَنَّ الذَّبِيحَ لَا يَكُونُ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ بَشَّرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ - أَنَّهُ إِسْحَاقُ - وَبِأَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَاسْمُهُ يَعْقُوبُ“. فَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ مُبَكِّرًا قَبْلَ أَنْ يُولَدَ إِسْحَاقُ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِذَبْحِهِ؟". قَالَ: "هَذَا لَا يَكُونُ بِأَنَّهُ يُنَاقِضُ الْبِشَارَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ".
ملاحظة : انْتَبِهْ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ الْإِمَامَ ابْنَ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقْصِدُ قِرَاءَةَ أَبِي عمرٍ الْبَصْرِيِّ، فَإِنَّهَا كَانَتْ قِرَاءَةً سَائِدَةً فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا أَرْضُ الشَّامِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي الْآيَةِ وَأَثْبَتَهَا فِي كِتَابِهِ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ بِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ.
فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ:
الاولى : (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) بِالنَّصْبِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَعْضِ الْقُرَّاءِ كَابْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، فلَمَّا تَقْرَأُ الْآيَةَ (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ) وَالِاسْمُ الْأَعْجَمِيُّ يُجَرُّ بِالْفَتْحَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) فَيَكُونُ يَعْقُوبَ بِالْفَتْحَةِ هُنَا مَجْرُورًا بِالْفَتْحَةِ عَطْفًا عَلَى إِسْحَاقَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَبِيَعْقُوبَ، هَذَا عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ تَكُونُ الْبِشَارَةُ حَصَلَتْ بِمَنْ؟ بِالِاثْنَيْنِ، بِإِسْحَاقَ وَبِيَعْقُوبَ.
الثانية : وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالرَّفْعِ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ)، أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ) انْتَهَى الْكَلَامُ، ثُمَّ اسْتُئْنِفَتْ فِي الْجُمْلَةِ الْجَدِيدَةِ (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ) أَيْ وَيَعْقُوبُ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ، فَجُمْلَةٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالْبِشَارَةِ السَّابِقَةِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ الَّتِي أَثْبَتَهَا فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ قِيلَ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ)، اذا هنا يعقوب لم تحصل به البشارة، فبهذا هنا اورد السؤال فقال : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَكَانَ يَعْقُوبُ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى إِسْحَاقَ، وَلَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) أَيْ وَيَعْقُوبُ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ، فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ :
أَوَّلًا: الْقِرَاءَةُ صَحِيحَةٌ، حَتَّى الْجَرُّ بِالْفَتْحَةِ قِرَاءَةٌ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ.
ثانيا : وَحَتَّى عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ) هُوَ أَيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا بِاللَّفْظِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فِي الْإِعْرَابِ.
خلاصة القول : هناك روايتان في البشارة :
اسم اسحاق اسم اعجمي، فاذا جُرَّ، فيجرُّ بالفتحة (بِإِسْحَاقَ).
الاولى : فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (هنا البشارة للاثنين في جملة واحدة وصلت لابراهيم ﷺ، اي في جملة تبشير الملائكة له) رواية : (بْنِ عَامِرٍ، وَحَمْزَةَ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ) مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فِي الْإِعْرَابِ.
الثانية : فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ (هنا البشارة باسحاق ويعقوب جملة اخرى خبرية ليست بالبشارة لابراهيم ﷺ فهي جملة جديدة (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ))، والصحيح ان الروايتين صحيحتين وفيهما وجه للاستدلال صحيحة. (رواية : الْجُمْهُورُ)
وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَحَّتِ الْقِرَاءَةُ كَمَا سَمِعْتَ أَيْضًا بِالْجَرِّ فَتْحَةً لِأَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ (وَمِنْ وَرَائِهِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، فَحَتَّى لَوْ ضَعَّفَهَا نَحْوًا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ قِرَاءَةً وَلَهَا وَجْهٌ أَيْضًا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْإِعْرَابُ.
فسِيَاقُ الْآيَاتِ أَيْضًا يُسَاعِدُكَ عَلَى الْفَهْمِ، فِي أَوَّلِ الْآيَاتِ قَالَ: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، ثُمَّ حَصَلَ الْحِوَارُ بَيْنَ ابْنِهِ الْحَلِيمِ - سواء قلنا اسحاق او اسماعيل - لَكِنْ لَمَّا حَصَلَ مَا حَصَلَ، وَجَاءَ الْفِدَاءُ (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، الْكَبْشُ الَّذِي ذَبَحَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) ثم قال : (وبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ)؛ إِذًا الْبِشَارَةُ الْأُولَى مَا كَانَتْ بِإِسْحَاقَ، كَانَتْ بِغَيْرِهَ، والا كان تكرارا لَا مَعْنَى لَهُ. (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) تَقُولُ هُوَ إِسْحَاقُ، ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَهَا تَقُولُ: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ.؟ فتَكُونُ بِشَارَةً مُكَرَّرَةً.
ولكن : وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ سَيُورِدُهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْبِشَارَةَ الْأُولَى بِوِلَادَةِ إِسْحَاقَ، وَالْبِشَارَةَ الثَّانِيَةَ بِنُبُوَّتِهِ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ يَعْنِي أَنْ يُولَدَ لَهُ غُلَامٌ. ثُمَّ قَالَ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا)، كَانَتِ الْبِشَارَةُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْبِشَارَتَيْنِ، وَسَيَرُدُّ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ الْآنَ :
يَعْنِي: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ)، يَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تَقَعْ فِيهَا الْبِشَارَةُ بِنُبُوَّةِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ، فالْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ أَنْ يُوجَدَ لَهُ وَلَدٌ وَأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا؛ فَالْبِشَارَةُ وَقَعَتْ بِذَاتِهِ وَبِنُبُوَّتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ) وَلَدًا، ثُمَّ قَالَ: "نَبِيًّا" فَصَارَتْ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ، فَوَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ وَلَدًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقَ أَيْضًا نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَإِذَا تَمَّ هَذَا الْمَعْنَى أَصْبَحَتْ آيَةُ (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) تَامَّةً فِي الْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ولدا ونبيا، وعندئذ يكون في الاية الاولى (وبشرناه بغلام حليم) على ابن اخر غير اسحاق، وَلَا يَكُونُ إِلَّا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
إِذًا هَذَانِ دَلِيلَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَيْسَ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا بُشِّرَ بِهِ إِسْحَاقُ (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، وَأَنَّهُ لَا تَكُونُ الْبِشَارَةُ بِنَبِيٍّ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ثُمَّ يُوَافِقُ أُمَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِهِ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي مَا قَرَّرَهُ هُنَا فِي السِّيَاقِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا آخَرَ لِلْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ولن يَكُونَ إِلَّا إِسْمَاعِيلُ.
الدليل الثالث : ثم قال :
أَيْنَ وَقَعَ الْأَمْرُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ؟ فِي مَكَّةَ، وَهَلْ كَانَ إِسْحَاقُ بِمَكَّةَ؟ الجواب لا، فلَيْسَ إِلَّا إِسْمَاعِيلَ فِي صُحْبَةِ أُمِّهِ لَمَّا تَرَكَهُمَا فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَبَدْءِ الْحَيَاةِ فِي مَكَّةَ كَمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحِيحِ، فهَذَا الدَّلِيلُ الثَّالِثُ؛ وَلِهَذَا - يَعْنِي كَيْفَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُثْبِتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ كَانَ فِي مَكَّةَ؟ - قَالَ: لِأَنَّكَ تَرَى أَعْمَالَ الْمَنَاسِكِ الَّتِي بَقِيَتْ فِي شَرِيعَتِنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مُرْتَبِطَةً بِآلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الطَّوَافَ بِالْكَعْبَةِ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الَّتِي سَعَتْ بَيْنَهُمَا هَاجَرُ بَحْثًا لِلْمَاءِ لِإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَمْيَ الْجِمَارِ اتِّبَاعًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَجَمَ الشَّيْطَانَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فِي قِصَّةِ ذَبْحِهِ لِوَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَأَعْمَالُ الْمَنَاسِكِ مُرْتَبِطَةٌ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ، فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ أَمَرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ هُنَاكَ فِي أَرْضِ الشَّامِ، ثُمَّ تَأْتِي قِصَّةُ الذَّبْحِ وَتَأْتِي أَعْمَالُ الْمَنَاسِكِ وَمِنْهَا ذَبْحُ الْقَرَابِينِ، وَالْأَضَاحِيِّ يَوْمَ الْعِيدِ سُنَّةَ الْخَلِيلَيْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُحَمَّدٍ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَأْتِي ذَبِيحَةُ الْأُضْحِيَّةِ اتِّبَاعًا بهدي النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ الخليلين إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا حَصَلَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ أَوْلَادِهِ إِلَّا إِسْمَاعِيلَ. فَهَذِهِ دَلَالَةٌ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ أَنَّ الذَّبِيحَ كَانَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الدليل الرابع : هَذَا دَلِيلٌ رَابِعٌ الان سياتي، قَالَ:
صفة حليم : (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) فِي سُورَةِ الصَّافَاتِ. صفة عليم : (وَبَشِّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ، وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ غَيْرُ تِلْكَ، (وَبَشِّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ هِيَ الْمُطَابِقَةُ لِمَا جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)، لماذا قلنا انها مطابقة ؟ لِأَنَّهَا فِي قِصَّةِ إِتْيَانِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَةِ ضُيُوفٍ رِجَالٍ كِرَامٍ، وقعت البشارة هنا باسحاق، وبسورة هود أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَجَاءَتْ بِالْوَصْفِ سُورَةُ الذَّارِيَاتِ قَالَ: (وَبَشِّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ)، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبِشَارَةَ فِي الذَّارِيَاتِ (وَبَشِّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) مَنْ هُوَ هَذَا؟ إِسْحَاقُ بِلَا خِلَافٍ، فيُرِيدُ أَنْ يَقُولَ لَكَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْبِشَارَةَ الَّتِي وَقَعَتْ بِالْغُلَامِ الْعَلِيمِ غَيْرُ الْبِشَارَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ؛ فَهَذَانِ وَصْفَانِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَصْفٍ مَخْصُوصًا بِأَحَدِ الْغُلَامَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
- السُّرِّيَّة يَعْنِي الَّتِي تُسَرُّ بِهَا، وهي الْجَارِيَةُ الَّتِي تُسَرُّ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ هَاجَرُ، فَإِنَّهُ أَخَذَ هَاجَرَ وَتَسَرَّى بِهَا، وَوَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَأَنْجَبَتْ لَهُ النَّبِيَّ الْكَرِيمَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ -
- فَإِنَّهُمَا بُشِّرَا بِهِ، مَنْ هُمَا؟ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزَوْجَتُهُ سَارَةُ، بُشِّرَا بِالْوَلَدِ عَلَى الْكِبَرِ، السُّؤَالُ: إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى كِبَرٍ أَمْ إِسْحَاقُ الَّذِي وُلِدَ لَهُ عَلَى كِبَرٍ؟ إِسْحَاقُ، وَالدَّلِيلُ: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ). قَالَتْ: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)، فَبُشِّرَ بِالْوَلَدِ عَلَى كِبَرٍ. قَالُوا: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۖ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) فوقعت البشارة بِإِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كِبَرٍ، وَهَذَا لَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْبِشَارَةِ بِإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ ذَاكَ بِالْكِبَرِ الَّذِي يُبَشَّرُ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَلَدِ، فالْوَضْعِ كَانَ مُخْتَلِفًا، وَحَتَّى الْعُمْرُ الزَّمَنِيُّ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، ثم قال -
والان الدليل الخامس : الذي يستدل به المنصف على ان الذبيح هو اسماعيل ﷺ :
يَقُولُ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ الْبَشَرِيَّةَ أَنَّ بِكْرَ الْأَوْلَادِ أَحَبُّ إِلَى الْوَالِدَيْنِ مِنْ بَاقِي إِخْوَتِهِمْ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ نَعَمْ، لِأَنَّ بِكْرَ الْأَوْلَادِ هُوَ الَّذِي جَعَلَكَ أَبًا، وَجَعَلَ أُمَّهُ أُمًّا، فلخروجه بهجة للوالدين، وَفَرْحَةً وَسُرُورًا،وليس معنى هذا ان الوالدان لَا يَفْرَحَانِ بِبَقِيَّةِ الْأَوْلَادِ، لَكِنْ جَرَتِ الْعَادَةُ الْبَشَرِيَّةُ أَنَّ بِكْرَ الْأَوْلَادِ - ذكرا او انثى - احب لهما من باقي الاوالاد، يُرِيدُ أَنْ يُثْبِتَ لَكَ أَمْرًا فِي سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَقُولَ إِلَّا أَنَّ : الْمَأْمُورَ بِالذَّبْحِ فِيهِ هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وليس اسحق، اذن مَحَبَّةُ الْوَالِدَيْنِ لِأَوَّلِ الْأَوْلَادِ أَشَدُّ مِنْ غَيْرِهَا، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُمِرَ بِالذَّبْحِ ابْتِلَاءً، يَقَعُ الِابْتِلَاءُ فِي أَتَمِّ صُورَةٍ وَأَعْظَمِهَا وَأَشَدِّهَا إِذَا كَانَ بِأَحَبِّ الْأَوْلَادِ إِلَيْهِ، وَأَحَبُّ الْأَوْلَادِ لن يَكُونَ إِلَّا بِكْرًا، وَمَرَّ بِكَ نَصُّ التَّوْرَاةِ: "خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ"، وَفِي تَرْجَمَةٍ كَمَا يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: "خُذِ ابْنَكَ بِكْرَكَ“؛ فَالْبِكْرُ يَقَعُ بِهِ الِابْتِلَاءُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ.
هَذَا مِنْ أَجْمَلِ وَأَدَقِّ مَا ذُكِرَ فِي حِكْمَةِ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ. قَالَ: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ. قَالَ: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)، وَحْيٌ، وَالْوَحْيُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الِامْتِثَالُ، فقَالَ: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) - وَعَرَفْتُمْ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ الى ان قال - : (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ)، لو كان المقصود من الذبح حصول الذبح نفسه لذبح، ولما جاء نسخ الامر، لكنه لما جاء الى وقت الذبح واضجعه وجهزه للذبح، جائت الكرامة : يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا، انا كذلك نجزي المحسنين، ان هذا لهو البلاد المبين، وفديناه بذبح عظيم، اذن لم يكن المقصود اراقة الدم، فَمَاذَا كَانَ الْمَقْصُودُ إِذًا؟ ومَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ؟ أَيْنَ يُمْكِنُ أَنْ تُلْتَمَسَ؟ لَيْسَتْ إِلَّا فِي ابْتِلَاءِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِثْبَاتِ عِظَمِ مَقَامِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، بِتَعْظِيمِهِ لِمَحْبُوبِهِ جَلَّ فِي عُلَاهُ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ عِنْدَكَ أَحَبَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَرَكَ بِذَبْحِ قِطْعَةٍ مِنْ قَلْبِكَ فَاَمْتَثَلْتَ، فَهَذَا غَايَةُ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا فِي قَلْبِكَ مَحَبَّةً أَعْظَمَ مِنْ مَحْبُوبِكَ، وَرَبِّكَ، وَخَالِقِكَ، وَسَيِّدِكَ جل فِي عُلَاهُ، فَلَمَّا حَصَلَ الْمَقْصُودُ نُسِخَ الْأَمْرُ، يَقُولُ: فَهَذَا مِمَّا يُعَضِّدُ بِالْقَرَائِنِ وَالشَّوَاهِدِ مَعَ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ؛ أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا فِي وَلَدٍ تَعَلَّقَ الْقَلْبُ بِهِ، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْوَلَدِ سَيَكُونُ فِي الْبِكْرِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
والان الدليل السادس : الذي يستدل به المنصف على ان الذبيح هو اسماعيل ﷺ :
هَذَا مِنْ أَجْلِّ مَا حبى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ آلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا طَوِيلٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ الْمَقَامُ، فكَرَامَةُ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَدِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ مَقَامَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، حَسْبُكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي مَنَاقِبِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً لِلَّهِ حَنِيفًا)، قَالَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، فِي آيَاتٍ جُمِعَ الثَّنَاءُ وَذُكِرَ الْمَنَاقِبُ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا حَبى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْخَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي سِيَاقِ مَوَاقِفَ مِنَ الِابْتِلَاءَاتِ، وَكُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ الْبَلَاءِ عَظُمَ الْعَطَاءُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رَمْيِهِ فِي النَّارِ بِحَرْقِهِ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَسْفَلِينَ، وَمُرُورًا بِأَخْذِهِ لِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَضِيعًا وَأُمِّهِ هَاجَرَ وَيَتْرُكُهُمَا فِي هَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أُنْسٌ وَلَا شَيْءٌ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَنْصَرِفُ ولَا يَمْلِكُ إِلَّا دَعَوَاتٍ يَرْفَعُهَا إِلَى رَبِّ السَّمَاءِ (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، ثُمَّ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ، مَقَامَاتٌ عَظِيمَةٌ وَاللَّهِ كُتِبَتْ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَمَنْ كَانَ هَذَا أَمْرُهُ وَشَأْنُهُ عَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْرُهُ، ثُمَّ يُعَظِّمُ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مَقَامَ ذَلِكَ الْعَبْدِ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَهَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَحُجُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَتَأْتِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، تَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَتَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَعْيَ هَاجَرَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي قِصَّةِ بَحْثِهَا عَنْ مَاءِ زَمْزَمَ قَالَ: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا". ثُمَّ يُؤْمَرُ النَّاسُ فَتَكُونُ شَرِيعَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِذَبْحِ الْأَضَاحِيِّ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ، عِيدِ الْأَضْحَى، وَتُذْبَحُ الْأُمَّةُ كُلَّ عَامٍ فِي كُلِّ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَجُعِلَتْ آثَارُ هَذِهِ الْأُسْرَةِ الْكَرِيمَةِ مَوَاطِئَ أَقْدَامِ الْعِبَادِ وَمَنَاسِكَهُمْ وَمُتَعَبَّدَاتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَلِهَذَا مَا زِلْنَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا أَرَدْنَا الْمَنْقَبَةَ وَالشَّرَفَ وَالْكَرَامَةَ وَالصَّلَاةَ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَقُولُ؟ "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ“، شَيْءٌ عَظِيمٌ خَالِدٌ، "وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ". فَصَلَاةٌ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَرَكَةٌ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، أَصْبَحْنَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ صَلَاةً لِنَبِيِّنَا وَبَرَكَةً عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجَدِّهِ الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
والمقصود إِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ وَالْأَوْصَافَ، إِنَّمَا تَنْطَبِقُ عَلَى هَاجَرَ وَابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا عَلَى سَارَةَ وَابْنِهَا إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ“.
الدرس التالي، ثالثا: تفاوت منازل الأرواح في دار القرار